27 - 06 - 2024

بريد المشهد | "عصابة الأشرار"

بريد المشهد |

خف صاحب الدار إلى الباب يستجيب للطرقات المتوالية فإذا برجل أشعث. أغبر - استطال شعر رأسة ولحيته وتهدلت ثيابه وتمزق بعضها ، وحيا الطارق صاحب الدار في لطف وقال: أخي إنني مشرد بلا دار، تبعثر أفراد أسرتي في كافة الأرجاء والأنحاء، فهل أجد عندك مأوى ؟ إن العربي معروف بكرمه و شهامته فما أراك تصدني، فهم صاحب الدار و أفسح الطريق ليدخل الغريب وهو يقول له: حاشا الله أن أصدك يا أخي على الرحب والسعة تفضل، وتفضل الغريب وفي المساء جلس الضيف يسمر مع ضيفه، فقال هذا: "أتعرف أن دارك هذه كانت مرتع صباي و منها استلهمت الرسالة التي اعمل لها في حياتي" فقال صاحب الدار متلطفا: (يسرني أن تعيش في دارى في جو ذكرياتك) فأضاف الغريب: فهل تراني اطمع في أن توسع لي صدرك أياما ريثما أستقر وأحصل على عمل في المدينة ؟

وتحركت شهامة العربي وكرمه فهتف: بلا شك يا أخي

انقضت أيام وحصل الغريب على عمل وتقاضى الأجر فلم ينفق منه إلا النذر اليسير وادخر الباقي وفي ذات يوم قال لمضيفه: أراني أطلت المقام واستمرأت كرمك إلى أبعد حد، فهتف العربي بنخوته المعهودة: "استغفر الله . ما كنت أضيق يوما بضيوفي"، فقال الغريب: "فلنكن عمليين ، إن دارك عزيزة عليّ، و أنا وأنت من أصل واحد ودم واحد وإن اختلف في الحياة مذهبنا، فمن حقي عليك أن تطمئن إليّ ومن حقك عليّ أن أذكر فضلك وأرعي جميلك .. فما رأيك أن تؤجر لي حجرة من الدار؟ فرد صاحب الدار و لكن كيف ؟ وما الداعي ؟

- إنني لا أريد أن أستنقل مقامي.

وهل بدر مني ما أوحى لك بذلك ؟ 

- لا وما إلى ذلك حقا رميت وإنما أنت تعرف إحساس الغريب إذا أطال المكث في دار. إنما أردت أن أهديء من شعوري بأنني أثقلت عليك - والدار بعد ذلك دارك يا أخي فلا يخيل إليك مهما دفعت إيجارا للحجرة أنني أريد استئثارا وانفرادا وما تأجيرك أو حتى شرائي لها سوى رمز لأريح ضميري وشعوري - وطال الجدل وكان صاحب الدار يعاني أزمة مالية فلم يلبث أن قبل العرض ومرت أيام وفي إحدى الليالي قال الغريب لصاحب الدار. إن أخي قادم غدا فهل لديك مانع من أن أنزله معي في حجرتي ؟ فأجاب صاحب الدار الطيب (أبدا على الرحب والسعة، إن لم تسعه حجرتك فالدار كلها تحت أمره ) . ووفد الأخ وإن هي إلا أيام حتى نشط في معاونة أخيه، فراحا يصنعان للحجرة أثاثا أنيقا ويزينانها ويجعلان منها جنة تخجل من بهائها الدار كلها، وتوافد أخوة الغريب واحدا وراء واحد - واستأجروا غرفا أخرى في دار المضيف لا بنيه التملك بل ليرضوا ضمائرهم وشعورهم بأنهم عالة على الرجل الكريم .. كما قالوا وكان محصل الضرائب يرقب الأحداث في بيت المضياف وهو يفرك بيديه مسرورا أن هؤلاء الضيوف الأغراب قوم مجتهدون يعرفون كيف يخلقون المال خلقا من أي المصادر وبأي الوسائل - وهذا من شأنه أن يزيد في حصيلة الضرائب. وكان لا بد أن يخرج عن حياده يوماً فيشجعهم لأنه كان يحلم بالمال الذي يجنيه من ورائهم فلم يتردد في أن يقول لهم الستم تقولون أن هذا البيت شهد طفولتكم وكان مرتعا لصياكم . إذن فانتم أحق به لمَ لا تملكونه. قال واحد منهم ولكن صاحبه على قيد الوجود وماتطنه يرضى أن يتخلى عنه أو يبيعه.

إنكم لو طالبتم بملكيته وجدتم في شخصي ظهرا لكم ...

وأثارت كلماته مطامع الاخوة فتقدموا يراودون صاحب الدار عن داره و يساومونه فيها - لكن الرجل أبي أن يبيعها - فهي تأوي أسرته كما أنه من ورائها يحصل على دخل ما أجره لأولئك الأغراب من حجرات - وكم كانت صدمته حين نبهوه إلى أنهم لم يستأجروا الحجرات بل تملكوها بحق الشراء، و استنجد الرجل بقومه ودارت معارك بين هؤلاء الأغراب النزلاء ثم تدخل محصل الضرائب صائحا: ويلكم يا قوم فيم الشجار أنكم مهما اختلفتم من اصل واحد و دم واحد - يا صاحب الدار لقد أجّرتَ تلك الحجرات ونص القانون صحيح في ربط حق الإقامة باستئجار مكان ففيم تمارى؟ ألا يحسن بكم جميعا أن تكونوا جيرانا صالحين متعاونين؟ 

وكان صاحب الدار طبعا سليم القلب والنية فأخذ بالرأي. وكان الأغراب قوما نهازين للفرص بعيدي النظر حسبوا ما وراء هذا الرأي فسلموا به واجتمعوا بعد أيام بمحصل الضرائب فقالوا له : وبعد .. لا بعد ولا قبل - الأمر واضح ادعوا فريق آخر من إخوانكم كي ينزلوا على الدار و يقيموا في مزيد من الحجراتt

ولكن صاحب الدار قد يرفض أن يؤجر لهم حجرات 

- سيرفض في البداية ولكنه فقير وصاحب عيال فكلما اشتدت أزمته اضطر للتأجير، وعمل من جهته أن شدد الخناق على صاحب الدار حتى لم ير أمامه من محيصا من القبول، و لكنه ما لبث أن رأى الأغراب يتكاثرون ونصيبهم في الدار يتسع فأوجس خيفة وطالب محصل الضرائب أن يوقف توافدهم حتى إذا أصم هذا أذنيه عن الطلب - ثار صاحب الدار عليه وآزره الله وإخوانه فأحس محصل الضرائب بحرج مركزه وتظاهر بالنزول عند رغبة الرجل ولكنه أضمر في نفسه أمرا - فراح يسمح للأغراب بالقدوم والتسلل خاصة، و كلما اشتكى صاحب الدار تعلل بما لا يشفى ظمأه، ودارت الأيام و أحس الأغراب أنهم أكثر من صاحب الدار مالا وأعز مركزا، فنهضوا يطالبون بالدار كلها 

- و لكنها دارى قالوا: و لكن لأهلك دور كثيرة تستطيع ان تنزل و أسرتك في إحداها أما نحن فأغراب لا دار لنا 

كيف وأين كنتم إذا؟ 

- كنا متفرقين ولكننا اليوم نصبوا أن نلم شملنا.

فاذهبوا إلى أي مكان آخر أما دارى فلست أنزل عنها. 

واشتجر الفريقان فتقدم محصل الضرائب يتدخل بينهما قال: لنقسم الدار فينفرد الأغراب بما استأجروا من حجرات، وأبى صاحب الدار - ووقف يصارع الفريقين محصل الضرائب والأغراب ولجأوا أخيرا إلى المحكمة - ولكن القاضي والمحلفين كانوا ذوى نسب للأغراب ومنتفعين منهم ومرتشين بأموالهم، فأقروا حكم محصل الضرائب وتلفت صاحب الدار فوجد نفسه وحيدا وسط عصبة من ذئاب لنام، فصرخ مستنجدا بأهله وعشيرته وذوى قرباه، فخفوا إليه سراعا ودار الصراع ولا تزال الرحي دائرة.
----------------------------------
بقلم: حلمي عبدالجواد عبداللطيف *
* المدير الأسبق بالسيرك القومي






اعلان